قرية الأشباح

الأولى كتب في 8 مارس، 2022 - 21:30 تابعوا عبر على Aabbir
تافيلالت
عبّر ـ ولد بن موح

ما زلت أتذكر ذلك اليوم، عندما زرت مراكش في سنة 2007، إنها أول زيارة لي إلى المدينة، كما أنها أول مرة أسافر فيها خارج منطقتي تافيلالت، وأنا بعمر السادسة عشرة.

التقيت والدي وهو ينتظرني عند مدخل ورش بناء صاخب، يلبس خوذة صفراء على رأسه، ويرتدي بذلة عُمَّالية زرقاء، مع لمحة اغتراب وحزن عميقين خلف ابتسامته العطوفة، بدا لي غريبًا شيئًا ما بهذا المظهر الذي لم أعتده عليه.

أمسك بيدي واصطحبني إلى داخل الورش، وسلكنا ساحته وسط حشود متفرقة من العمال، نصف عمارات تنتصب على جنبات الساحة، وأكوام من الحجر والإسمنت والحديد تغطي جوانبها، بينما هدير آلات عملاقة من كل نوع يصدح في أجواء المكان، ومسبات غليظة تتطاير من هنا وهناك.


وصلنا إلى حي صفيحي بداخل ورش البناء، حيث يقطن العمال، ودخلناه متوجهين إلى سكن أبي، عبر ممر ضيق يفصل المربعات السكنية الصفيحية، وضوء خافت بالكاد يضيء الطريق. تنبعث من المكان روائح كثيرة ومتداخلة، لكنها غير محببة، وموسيقى شعبية صاخبة تأتي من بعض المساكن، والفوضى تعم الحي الصفيحي.

وصلنا المسكن وفتح أبي الباب ودخلنا المكان، إنه ليس مسكنًا حقيقة وإنما مجرد غرفة صفيحية على ثلاثة أمتار مربعة، تتوسط الغرفة شبه مائدة تحمل فوقها بضع أواني بالية، فيما ملابس غير مرتبة تتعلق بمشبك بالباب. على الجانب الأيمن يمتد سرير خشبي، وبقربه مروحة سخيفة تحاول عبثًا تبديد حرارة الغرفة القصديرية.

جلست على أريكة مهترئة في الزاوية، وأنا أطوف الغرفة بنظري متأملًا البؤس من حولي. ثم قدم لي أبي بعض الزيت والشاي، وطلب مني المكوث في المكان ريثما ينتهي من العمل.

لم أحس يومًا بالوحدة والاغتراب مثل تلك اللحظة، شعرت وكأن أنفاسي تختنق داخل علبة الصفيح تلك، مفكرًا مع نفسي: لماذا ترك أبي دفء المنزل وحقولنا الفسيحة في القرية، وسافر آلاف الكيلومترات ليعيش في هذا المكان الضيق البائس، مغتربًا عن عائلته وأطفاله لشهور مديدة؟ وكيف تحول أبي بين ليلة وضحاها من فلاح يعتني بالنخل ويحرث الحقل، إلى عامل بناء يحمل على أكتافه الحديد والإسمنت؟ وأين اختفت طلته البهية؟

الطريق إلى تافيلالت.

في يوم 1 غشت 2021، ركبت التاكسي متوجهًا إلى تافيلالت بالجنوب الشرقي للمغرب، لأستكشف كيف قاد «التغير المناخي» (الاحترار العالمي) هناك إلى هجرات قروية جماعية في المنطقة، بصفتي صحافيًّا بيئيًّا، القصة بالنسبة لي أكبر من ذلك، فمنذ أن هاجرت عائلتي بشكل كلي من القرية قبل 10 سنوات لا أزور مسقط رأسي إلا لمامًا.

لم يمض وقت طويل حتى بدأت تظهر بعض واحات النخيل على جنبات الطريق، القريبة من مدينة الرشيدية، من هذه النقطة يبدأ امتداد واحات تافيلالت على طول 100 كيلومتر من الطريق جنوبًا إلى بلدة الريصاني وما وراءها. تأوي المنطقة قرابة مليون ونصف نسمة، يقيمون على مساحة تقدر بـ115 كيلومترًا مربعًا، معظمهم يستقر في القصبات أو «القصور» كما يُسمونها، وهي قرى شبيهة بقلاع ترابية، يسيجها سور بداخله بيوت متلاصقة بسيطة من الطين الجاف، وبسبب معمارها القديم والمثير للإعجاب، أُدرج بعضها، مثل قصبة آيت بن حدو، ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي.

على الرغم من أن هذه الواحات القروية جافة وشديدة الحرارة، فإن سكانها ظلوا يمتهنون النشاط الفلاحي في عيشهم، مستفيدين من نهر وادي زيز الذي يخترق المنطقة، ومن مياه الآبار لسقي محاصيلهم، وعلى ما يجود به سد الحسن الداخل بالرشيدية، محولين الصحاري الجرداء إلى واحات خضراء بالنخيل والزرع، ومعلنين بذلك انتصار الحياة على الموت.

وفقًا لتقرير خبراء الأمم المتحدة «COP22» لعام 2016، فإن هذا الكنز الطبيعي والثقافي «مهدد بالزوال نتيجة لتغيرات المناخ»، بعدما زحف التصحر على الواحات واشتد الجفاف، وأتت الحرائق على العديد منها؛ مما دفع الكثير من سكانها إلى الهجرة جماعة نحو المناطق الحضرية القريبة والبعيدة.

واحة «سافلة تافيلالت» حيث أتجه، هي واحدة من هذه الواحات الجميلة المهددة بالاندثار، تقع بمحاذاة مدينة الريصاني في الجنوب الشرقي للمغرب، وتأوي عشرات من القصبات، التي كان سكانها يعتمدون على حياة معيشية بسيطة، قوامها الزرع والنخل، قبل أن يلوذ كثير منهم إلى الهجرة.

القرية المهجورة
بعد بضع ساعات، وصلت بلدة الريصاني، بعمق تافيلالت، نزلت من السيارة، وإذا بأشعة الشمس تلفح الوجوه، فأسرعت خطاي لملاقاة إبراهيم بالمقهى. إبراهيم من قصبة «زاوية ملايخاف»، هجر مع عائلته المنطقة منذ 2008، كانت عائلته آخر المهاجرين من قريته، لتصبح قريته خاوية تمامًا.

تبادلنا التحية وشربنا بعض كؤوس الشاي، وأنا أسترجع مع إبراهيم ذكريات الطفولة بهذه المنطقة وكيف أنها لم تتغير شيئًا، وكأن الزمن يتوقف بها. ثم ركبنا سيارة أجرة متوجهين إلى مسقط رأسه، قرية «زاوية ملايخاف»، الواقعة في واحة سافلة تافيلالت.


كان الوقت عشاء، والقرية تغرق في ظُلمة حالكة، فيما تبرز من بعيد وهج أضواء القرى المجاورة. أخذ إبراهيم هاتفه وفتح الإضاءة لينير قليلًا ممشى الطريق. وصلنا إلى منزله القديم بمقدمة القرية، وأشار لي بيده، مسلطًا ضوء هاتفه على بناء صغير بمدخل البيت. «أتعرف ما هذا؟» سألني إبراهيم، فأجبت «ما ذلك؟»، فقال بنبرة فيها حنين إلى الماضي: «إنه حوض مياه، كنت أربي فيه الأسماك، وأعتني بأعشاش النحل على الجانب هناك».

دخلنا باحة المنزل القديم، جدران متهدمة وأرضية مغبرة، فلم يعد هناك من يعتني بالبيت، ثم فتح إبراهيم إحدى الغرف، كانت الحرارة داخلها لا تطاق، فحمل حصيرة وبعض الملاءات المخزنة لمثل هذه الزيارات الخاطفة، وصعدنا سلمًا ذا أدراج متكسرة إلى السطح.

استلقيت على ظهري ورفعت نظري إلى الأعلى منبهرًا بمشهد السماء، وهي مرصعة بالنجوم المكتظة والمضيئة، مع معالم سديم مجرة ما متوهج. لم أر السماء بهذا الصفاء من قبل في أي مكان زرته، فتساءلت مع نفسي كيف يمكن للمرء أن يترك كل هذا الهدوء والجمال ويغادر إلى صخب المدينة. ذكرني المنظر بطفولتي، عندما كان يجافيني النوم وأشغل نفسي برؤية السماء الصافية المزينة بالنجوم، وأنا أستمع لأصوات الذئاب والكلاب من بعيد، غير أن هذه المرة ليس هناك أصوات ذئاب ولا كلاب.

في الصباح، بدأنا جولتنا في القرية المهجورة، أطلال آيلة للسقوط ومنازل متهدمة في كل مكان، ولا حس لإنسان أو حيوان وكأنها قرية أشباح، نسير بين دروبها أو ما تبقى منها نتلمس خطانا بحذر شديد، كما لو أننا نتمشى على البيض، فحيطان البيوت الترابية على وشك السقوط، والأسقف شديدة الهشاشة، لقد أصبحت مكانًا خربًا.
وقفنا أمام عتبة بيت مهترئ منزوع الباب، تبدو جدرانه غير مستقرة ونوافذه مكسورة، وعلى أرضيته قطع من السقف متناثرة، لا بد أنها سقطت بسبب المطر والزمن، فيما لا تزال صباغة حيطانه الخضراء تقاوم الدهر. في باحته المغبرة حصيرة وآنية فخار، توحيان بأن هذا البيت كان يومًا يعج بالحياة ويأوي عائلة ما، يعرف إبراهيم أهلها تمام المعرفة.

تركنا البيت المهجور ومررنا بمنزل آخر قريب منه، إلا أنه يبدو أكثر استقرارًا، على جدرانه ترميمات وأساسات، من الواضح أن أهله المهاجرين لا يريدونه أن يندثر.

عدنا إلى المنزل القديم لنستريح، ونحن جلوس، والحرارة الشديدة تكاد تخرجنا عن صوابنا، سألت رفيقي: «لماذا هجرتم قريتكم بشكل كلي؟»، خلع طاقيته الشمسية واتكأ على وسادة بالية، وقال: «بدأت الهجرة هنا منذ التسعينيات، في عام 2000 كانت هناك 22 عائلة تعيش في هذه القرية، الآن كما ترى لم يتبق أحد، كانت عائلتي آخر المغادرين، بعدما ضرب الجفاف أراضينا وجفت الأنهار ولم تعد الأرض صالحة للزراعة، وبالتالي انقطعت سبل عيشنا، وفكر الناس بأن ما يفعلونه هنا هو مضيعة للوقت، فجمعوا حقائبهم وغادر واحدًا تلو الآخر إلى أن فرغت تمامًا».

ثم زاد قائلًا: «لم يكن قرار الهجرة سهلًا، وجاء رغمًا عنا، بل إن بعض العائلات في هذه القرية رحلت رغم عدم وجود مستقر لها في وجهتها الجديدة، ولجأت إلى الكراء، وهذا يبين مدى يأس الناس في المنطقة لدرجة لم يعد هناك حل آخر غير مغادرة المكان اضطرارًا».

الوادي الميت
في عشية اليوم، خرجنا من البيت متوجهين إلى وادي زيز، ونحن نمر بمحيط القرية تظهر نخلات من هنا وهناك، يتدلى من بعضها جريد يابس وكأنها تحتضر. ثم تبدأ فيافي من الأراضي القاحلة خلف القرية، أرض ترابية جرداء بيضاء. يمتد البصر على طول الأرض المنبسطة بعيدًا إلى الأفق، حيث تظهر تقوسات سفوح الجبال البعيدة وزرقة السماء الصافية، فيما قرص الشمس الذهبي يتجه ليغطس وراء الجبال، مثل لوحة فنية من صنع الطبيعة.

أخبرني إبراهيم بأن «معظم هذه المساحات كانت خضراء مليئة بالنخيل وحقول القمح، وكنت ترى الفلاحين يكدون طوال اليوم في حقولهم، والأغنام ترعى في المرعى، والصغار يلعبون». لكن الآن لا أرى أي حقل زراعي في هذه المنطقة، ولا أي مزارع يشتغل في أرضه، رغم أن موسم الحصاد قد حلَّ.

وصلنا إلى نهاية الوادي، بمكان يدعى «البطحاء»، كان جافًا تمامًا. ينتهي الوادي بسد ترابي هائل، وخلفه يظهر معالم نهر، يوحي بأنه كان يمتلئ عن آخره بالمياه إلى أن يفيض على السد الترابي العملاق، فتذهب بقيته نحو الخلاء بعيدًا. إنه واحد من النهرين الرئيسين اللذين يزودان المنطقة بمياه الري، وتعتمد عليه كليًّا سافلة تافيلالت لسقي حقولها الزراعية عبر سلسلة من القنوات المائية.


نزلنا إلى قاع الوادي وبدأنا نتمشى قليلًا في قعره الجاف، مثيرًا لدي ذكريات الطفولة، «أتعلم أني كنت آتي مع أطفال قريتي إلى هذا المكان للسباحة في حر الشمس. هناك في الحافة كنت أقفز رأسًا في المياه، ولا أذكر أني لمست قعره مرة، والآن أنا أسير على أرضه!» قلت لإبراهيم، فرد قائلًا: «نعم، كنت أيضًا آتي إلى هنا، لأصطاد بعض السمك بصنارتي التي كنت أصنعها بنفسي، من هنا كنت أجلب الأسماك إلى حوضي بجانب المنزل».

وبينما نسير في أسفل الوادي، تثير انتباهنا بيوت منتشرة للعناكب، التي لم تجد مكانًا لنسج أعشاشها سوى على أرضية قعر الوادي، مستفيدة من الشقوق المخيفة التي نحتها الجفاف، وكأنها اطمأنت بأن المياه لن تجري في الوادي مجددًا.

الهجرة والتهميش
بالرغم من أن المغرب بات يعاني بشكل عام من الجفاف، فإن واحات تافيلالت على وجه الخصوص «تتعرض لشح خطير في الموارد المائية، من جراء التغيرات المناخية والنشاط البشري»، وهي حقيقة تؤكدها دراسة علمية منشورة، قام بها فريق من الباحثين المغاربة.

وعندما اطلعت على بيانات المناخ الخاصة بالمنطقة المناخية المُتضمنة جهة تافيلالت، على الخريطة التفاعلية التي صممها خبراء الأمم المتحدة، بدا لي الأمر منطقيًّا جدًّا. إذ كما يظهر البيان فإن هذه المنطقة بدأت تشهد تحولًا نوعيًّا في المناخ منذ بداية التسعينيات؛ إذ أخذت الحرارة تزيد وتقل التساقطات إلى اليوم، وسيستمر هذا المنحى طوال العقود القادمة، ومن المرجح أن يوازي هذا التدهور المتصاعد في المناخ هجرات متزايدة بالمنطقة مستقبلًا.

فيما بعد، ونحن عائدون إلى المنزل عبر الحقول الجرداء في الليلة الظلماء،سألت إبراهيم: «هل تعتقد أن الجفاف وحده سبب في هجرة السكان من منطقة تافيلالت؟»، فأجاب «نعم الجفاف ربما كان هو العامل الأساسي لهجرة معظم العائلات، لكن هناك أيضًا التهميش الذي يطال المنطقة».

«أعني أن جيل الآباء قد يرغب بالبقاء ويشعرون بالاغتراب في المدينة، ولولا الجفاف لما رحلوا، لكن بالنسبة لجيل الشباب والجيل القادم، أظنه حتى لو توفرت لهم الفرصة للبقاء فسيغادرون، بعدما اكتشفوا المدن وكيف أنها تحتوي على فرص اقتصادية وخدمات أفضل، وأصبحوا يفكرون هم أيضًا في شراء منزل وسيارة وأشياء أخرى لم يكن يفكر فيها آباؤهم».

وصحيح قد تكون هناك أسباب أخرى غير بيئية للهجرة، ومع ذلك «من المرجح أن تصبح تأثيرات التغير المناخي، المتمثلة في الجفاف القاحل والحرارة المفرطة، هي المحرك الأول للهجرة مستقبلًا»، كما يشير البنك الدولي، خاصة بالنسبة للمجتمعات الفقيرة، التي تتكبد النصيب الأكبر من الخسارة من جراء التدهور البيئي، والذين قد يخسرون الأرواح وسبل عيشهم، أو يغرقون أكثر في مستنقع الفقر.

وتأتي الهجرة ملاذًا أخيرًا لهؤلاء الفقراء الريفيين، بوصفها رد فعل طبيعيًّا على ظروفهم البيئية والاجتماعية والاقتصادية البائسة، بعدما يستبد بهم اليأس ولا يجدون سبيلًا آخر للنجاة وتحسين عيشهم سوى المخاطرة بالهجرة. وعادة ما تبدأ هجرتهم برحيل فرد أو فردين أو أكثر، من أجل العمل أو الدراسة في الجامعة، ثم بعد مدة يلتحق باقي الأسرة، بعد أن يؤمنوا مكانًا لهم في المدينة.

المدينة التي هي بقدر ما تفتح فرصًا واعدة تحمل في الوقت ذاته مخاطر كبيرة، خاصة بالنسبة للفئات الأكثر هشاشة، المفتقدة للرأسمال والعلاقات ومهارات السوق.

الحزن البيئي
في اليوم الموالي، وفيما نحن نتجول في المكان صباحًا، إذا بسيارة رباعية الدفع تصل المكان، خرج راكبوها يستطلعون، وهم عائلة مع أطفالهم، بدا إبراهيم وكأنه يعرفهم، ثم توجهوا نحونا، ونادوا على إبراهيم ليقترب منهم، ويتبادل التحية معهم بحرارة، وبعدها انغمسوا في الحديث عن أخبار القرية.

أسرَّ لي إبراهيم فيما بعد، أنهم إحدى العائلات المهاجرة قادمين من مدينة فاس، وأتوا مع أطفالهم الصغار لزيارة قريتهم المهجورة وبيتهم القديم، البيت نفسه الذي كنا قد مررنا به من قبل ولاحظنا ترميمات على جدرانه الخارجية.

فرغم أن القرية هجُرت تمامًا، فإن أهلها من كبار السن خاصة لا يتوقفون عن زيارتها بين الفينة والأخرى، كما أخبرني إبراهيم، بما فيهم والده الذي يتردد على القرية بشكل دوري، ولولا اضطرارهم للرحيل لما هجروا قراهم.

وكنا قد لاحظنا منذ وصولنا وجود واحد من هؤلاء الذين استبد بهم الحنين إلى القرية، وهو رجل متعب كبير في السن بالكاد يتمشى، آثر ترك عائلته في المدينة وعاد إلى القصبة والمكوث فيها وحيدًا لشهور، لا أعلم حقيقة كيف يتدبر أمره. ذكَّرني بسمك السلمون المُرقط في وثائقيات «ناشيونال جيوغرافي»، الذي لا يهنأ حتى يرجع إلى موطنه الأم، متحملًا السير عكس التيار عبر مسالك الأنهار، ليموت بسلام في مكان مولده.

يُفكرني هذا بما قرأته عن أن المهاجرين القرويين، وجيل الآباء تحديدًا، يشعرون بالاغتراب والاكتئاب في المدينة، والعديد منهم يشعرون بالدونية والعزلة والاختلاف في محيطهم الحضري الجديد؛ وذلك بسبب انتقالهم من البيئة التي كبروا فيها إلى وسط مختلف آخر، ليسوا مجهزين له نفسيًّا ولا اجتماعيًّا بعد تغير البيئة من حولهم.


ما يثير الانتباه إلى أن التغير المناخي لا يهجر سكان الأرياف فقط، وإنما كذلك يؤثر في صحتهم النفسية، ويتسبب لهم بما تسميه مجلة «نيتشر» العلمية بـ«الحزن البيئي»، ليصبح رد فعل نفسي على التغيرات البيئية.

كما يتعرض هؤلاء المهاجرون الريفيون إلى العنصرية والمضايقات والنصب والاستغلال على يد أرباب عملهم ومن قبل بعض سكان المدينة. بالإضافة إلى ظروف العمل والسكن السيئة، وكذلك غلاء المعيشة وارتفاع أسعار الإيجار، وليس آخرًا ضغوطات الأسرة في القرية التي تنتظر منهم بفارغ الصبر إرسال قوت العيش.
في النهاية فهمت قصة والدي، ولماذا تحول بين ليلة وضحاها من فلاح إلى عامل بناء؛ لقد قاد الجفاف المدفوع بالتغيرات المناخية إلى جانب تهميش القرى على مدى عقود، أبي ومثله عشرات الآلاف من القرويين، إلى الهجرة من قصبات تافيلالت إلى المدينة بعيدًا عن موطنهم الأصلي، بحثًا عن لقمة عيش، تاركين أراضيهم ومنازلهم وأطفالهم وعائلاتهم، بعدما فقدوا سبل العيش في قراهم.

استقلت التاكسي وغادرت واحة سافلة تافيلالت، مفكرًا مع نفسي «يا للسخرية! كان والدي يكد في بناء فنادق مراكش مقابل بضعة دولارات في اليوم وفي ظروف عمل غير آدمية، من أجل رفاهية من تسببوا في شقائه وتهجيره، من أجل سياح الدول الغنية التي ساهمت بالحصة الكبرى في الاحترار العالمي، ومن أجل رفاهية أثرياء البلد الذين راكم الكثير منهم ثرواتهم من الريع الحكومي والفساد على حساب آلام وفقر مغرب القرى».

بواسطة خالد بن الشريف

تابعنا على قناة عبّر على الواتساب من هنا
تابع عبّر على غوغل نيوز من هنا

اترك هنا تعليقك على الموضوع