مؤسسات عمومية تموّل المنصات الأجنبية بالعملة الصعبة وتُخنق الصحافة الوطنية

مؤسسات عمومية تموّل المنصات الأجنبية بالعملة الصعبة وتُخنق الصحافة الوطنية
عزيز أخنوش

ففي الوقت الذي تُصارع فيه الصحافة الوطنية للبقاء وسط أزمة هيكلية حادّة، تختار مؤسسات حكومية وهيئات عامة ضخ ملايين الدراهم – بل والدولارات واليوروهات – في الإعلانات الرقمية عبر منصات أجنبية كـ”فيسبوك” و”غوغل”، في خارجية واضحة للمال العام، وتهديد صريح للمصلحة الوطنية.

تمويل بالعملة الصعبة… لصالح من؟

بحسب معطيات متقاطعة من مهنيين في قطاع الإعلانات، يتم تحويل هذه المبالغ بالعملة الصعبة إلى الخارج، عبر وكالات إشهارية تتعامل غالبًا مع منصات لا تدفع ضرائب في المغرب، ولا تلتزم بأي ضوابط مهنية أو تحريرية، ما يفتح الباب واسعًا أمام التهرب الضريبي والتلاعب القانوني.

وتُبرَّر هذه النفقات عادة بـ”الرغبة في الوصول إلى الجمهور المغربي”، بينما هذا الجمهور نفسه تصل إليه الصحافة المحلية باحترافية وبتكلفة أقل، وبحمولة إعلامية مسؤولة. لكن بدلًا من دعم هذه الوسائل الوطنية، تُقصى من الميزانيات الإعلانية ويُترك لها فقط هامش الانهيار البطيء.

الإشهار الموجه: خيانة مزدوجة

أخطر ما في الأمر أن هذا النمط من الإنفاق لا يُمثّل فقط تبديدًا للموارد المالية، بل يشكّل خيانة ثقافية وإعلامية، حين تغذّي الدولة منصات تُشجّع على التفاهة والمحتوى السطحي، بينما تُحاصر وسائل الإعلام التي تحمي صورة البلاد وتنقل الإصلاحات بمهنية.

وهنا تكمن المفارقة: مؤسسات عمومية تشتكي من ضعف الإعلام المحلي، لكنها لا تتوانى في تمويل محتوى غير منتج محليًا، ولا يعكس لا القيم الوطنية ولا الأولويات التنموية.

وكالات دون التزام… وبدون رقابة

تلعب بعض الوكالات الإشهارية دور الوسيط غير الشفاف في هذه المعادلة المختلّة، عبر صفقات يلفّها الغموض، دون إعلان للصفقات أو شروط واضحة، وسط صمت من الجهات الرقابية، وهو ما يستدعي تحقيقًا من مكتب الصرف حول هذه التحويلات المالية الخارجية، وتدقيقًا من المجلس الأعلى للحسابات حول العقود المبرمة وشروطها المجحفة في حق المال العام.

حزب الأحرار والإشهار الرقمي: سابقة لم تُحاسب

التساؤلات نفسها طُرحت خلال انتخابات 2021، حين أنفق حزب التجمع الوطني للأحرار مبالغ ضخمة على الإعلانات الرقمية بالعملة الصعبة، خاصة على منصّات “ميتا” و”غوغل”، بتكفّل من وكالات أجنبية، ما أثار آنذاك جدلًا واسعًا حول مدى احترام القواعد القانونية للتمويل الانتخابي. ورغم تصدّر الحزب للنتائج، إلا أن المراقبين السياسيين يجمعون على أن هذه الأموال لم تكن العامل الحاسم، بل إن النتائج تعود إلى عوامل أخرى يعلمها الجميع.

لكن يبقى السؤال: من أين جاءت تلك الأموال؟ وما هي الضمانات ضد تكرار هذا النموذج في المستقبل؟

هل نحن أمام فقدان للسيادة الرقمية؟

في الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن “التحول الرقمي” و”السيادة الرقمية”، فإن السماح باستمرار هذا النوع من الإنفاق غير الرشيد يمثل تناقضًا صارخًا. كيف يمكن الحديث عن السيادة، بينما الدولة نفسها تُضعف أدواتها الإعلامية وتُموّل شركات لا تخضع لأي رقابة داخلية؟

آن الأوان لوضع حدّ لهذا الانحراف في صرف المال العام، والبدء في وضع خطة وطنية للإعلان الرقمي تُعيد الاعتبار للإعلام الوطني، وتحفّز على الشفافية في التعاقدات الإشهارية، مع فتح تحقيقات مالية عاجلة في التحويلات نحو الخارج باسم “الإشهار الرقمي”.

فلا سيادة وطنية رقمية بدون إعلام وطني حرّ وقويّ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الأخبار