حافي القدمين..

عبّر معنا كتب في 28 نوفمبر، 2021 - 15:00 تابعوا عبر على Aabbir
حافي القدمين.. نجاة بقاش
عبّر
حافي القدمين..

نجاة بقاش 

في يوم من أيام شهر تموز الساخنة.. طلع الأمير بطلعته علينا.. بأحدث صيحات الموضة.. بدا متناسقا أنيقا كعادته.. سعيدا سعادة أطفال حارتنا.. يوم العيد.. علامات السعادة تغزو محياه.. أحلام وآفاق واسعة.. إلا أن عيناه تبدوان ضيقتان.. فمن شدة حرارة الطقس.. وبعد طول انتظار.. أخذ الأمير أصعب قرار.. قرر أخيرا ركوب الغمار.. أصر أن يمشي حافي القدمين، مثلنا.. تاركا لقبه الشريف.. تاركا وراءه حذاءه الأنيق.. فمن شدة الوقع عليها.. توقفت الأرض عن الدوران.. وهي ترفع عيناها نحو السماء.. تستفسر عما جرى للأمير.. ومن شدة الغبطة والسرور.. غنت قدماه “أنشودة النصر العظيم”.. وعلى نهج الأمير.. سار كل من كان حوله.. اتفق الإخوان والرفاق.. على سداد الرأي الحكيم.. فقرعوا الطبول..أجمعوا على إنسانية الأمير..سبحان مغير الأحوال.. سبحان من يساوي حفاة الأقدام..

في نفس السياق.. تحدث الطبيب عن فوائد المشي على الرمال.. حفاة.. وردد بعده الأثرياء، لازمة متعة المشي في جزر المالديف.. عراة.. تغنى المقربون بتواضع الأمير.. كما دعا الفقهاء له بالعمر المديد..سمعت الحذاء يثني القرار السديد.. رغم هجر الأمير للحذاء الثمين.. بل هنأ القدمين.. لتحريرها من نعومة الجلد والحرير.. بدورها.. اعتذرت الأرض الصلبة..لنعومة أقدام الأمير.. التي شكرت بدورها ربها العظيم.. على نعمة تحررها من قبضة الرفاهية والنعيم.. سبحان مبدل الأحوال.. سبحان مقرب الأبعاد..

للأمير إنجازات عديدة.. إلا أن تخليه عن “اللوفر” الناعم و”بيرلوتي” الفاخر.. يبقى أعظم انجاز.. سأشهد عليه أنا.. سيشهد عليه تموز العظيم.. يا حافي القدمين مهلا.. بعض هذا القرار المزلزل.. فإذا كان للحذاء وظيفة تحمي من الصدمات صاحبها.. فحذاء الأمير فخر أمة بأكملها.. يا صاح.. أدعوك أن تعدل عن القرار.. فركوب الغمار أمر “أمر” من الحنظل.. والمشي حافي القديمين قرار صعب.. أمر لا نختاره طواعية.. بل هو قرار حاكم مستبد جائر.. فهناك فرق شاسع.. بين من يختار المشي حافي القدمين طواعية.. في “جزيرة الألوان” أو في “براونيز”.. في “تافيوني” أو في “سنتوريني “.. يترك حذاءه الناعم في الصيف مؤقتا.. باحثا عن اللذة هنا وهناك بأي ثمن.. وبين من يفارقه نعله الخشن.. تاركا إياه.. وسط الطريق يهذي متحسرا.. يبكي شؤمه.. ويدعي ربه.. بحيث لم أر في الوفاء كما رأيت تشبث الفقير بحذائه الممزق.. مصر على أن يحمله لأقرب اسكافي ليسعفه.. أو نحو ماسح الأحذية ليجمله..

استحضرت حوارا دار يوما.. بيني وبين نائب من نواب الأمة.. كان يلقبه المقربون ب”ذي مائة حذاء”.. كان الأمر خياليا يتجاوز حدود المعقول بالنسبة لي.. وأنا طالبة منحتي الدورية لا تتجاوز ألف وثلاثة مائة درهما.. سألته مستفزة إياه ذات يوم.. ما سر “مائة حذاء”؟.. ظننته سيكون سعيدا بالسؤال.. فخورا بالإنجاز.. كأية أميرة عربية أو عارضة أزياء.. إلا أنه كان متألما من الندم.. أجاب متحسرا.. “ليس المهم أن ألقب اليوم ب “ملك الأحذية”.. أو أحتفظ في الدولاب بألف حذاء.. كان من الأجدر ألا أمشي بالأمس حافي القدمين”.. “هناك أشياء إن غابت عن موعدها.. فقدت بالتأكيد معناها”.. لا يمكن لألف حذاء اليوم.. أن يعوض حرمان طفل.. عجز أبوه عن توفير حذاء أسود.. يوم العيد”..

 

ألمتني قصة نائب الأمة كثيرا.. بحيث لم أستطع التخفيف من وطأة ألمه.. وهو يستحضر آلام طفولته.. حسرة، ما كانت لتكون في الأصل.. فقلة حيلة الوالد لم تستطع حماية النائب من استحضار آلام شوك الصبار.. وقلة استحياء الحكام جعل نائب الأمة يبكي كالأطفال.. جعلني بدوري أسافر نحو الأحزان.. حيث كانت الغيرة تلتهمني.. كلما رأيت اهتمام أبي بحذائه.. يفوق اهتمامه بنتائجي.. فقبل أن يستكين للفراش من كثرة الوهن.. في الصيف كما الشتاء.. كان أبي يحضن حذاءه الوحيد.. ليمسحه بحنان شديد.. حتى يأخذ نصيبه من اللمعان.. ويكون أبي مواطنا صالحا في نظر الرؤساء.. وأموت أنا غيضا من وجع الإهمال..

يا حافي القدمين، ترفق بذكائي رجاء.. لا تدع المداد الأحمر يسيل أنهارا.. بالله عليك.. قلي، كيف ينام الحكام وفي وطني.. عراة.. أقدامهم حفاة.. بسببهم فقدت طعم الابتسامة والحياة ؟.. قد يبدو لك كلامي نكتة.. وحافي القدمين مزحة.. صدقني قد يصبح الوضع يوما نكبة..

تستحضرني قصة أقوى وزير في عهد أقوى ملك.. كان يعشق ثريا “الكريستال” كما يعشق الملك السلطان.. كان يهوى لعبة الكولف كما يهوى اللعب بالنار.. قصة النزوح من “الشاوية”.. قصة الصعود إلى “الهاوية”.. في يوم من أيام باريس الباردة.. بالقرب من برج إيفل.. وساحة حقوق الإنسان الشهيرة.. تم توقيف الوزير السابق بعد أن سحبت منه كل الألقاب.. وتنكرت له التشريفات والأوسمة.. بل تخلت عنه كل الأفئدة والأنظمة.. من ساحة “تروكاديرو” الشهيرة.. ساقه الشرطي الفرنسي نحو المخفر.. كأي مجرم مجرد من الهوية.. مجرد من كل الأحلام الوردية.. مجرد من كل الفرص التصحيحية.. تهمته الوحيدة.. أنه قرر أن يمشي في الحديقة وحيدا حافي القدمين.. خارج الحظيرة.. لم يتذكر الوزير لا برج إيفيل.. ولا قوس النصر.. لا متحف اللوفر ولا نهر السين.. الوحيد الذي تذكر الوزير.. هو شاب مغربي في مقتبل العمر.. بئيسا ووحيدا.. هاجر البلاد بحثا عن الكرامة والرغيف.. ساقه الحكم الجائر نحو بلاد ليوطي بومبيدو وموليير.. فلم يجد أمامه سوى معالي الوزير.. الذي نال بدوره نفس المصير..

صحيح أن الأقدام قد تبدو حافية.. إلا أن المقامات والأقدار تكون حتما مختلفة.. فهناك من ينزع الحذاء مجبرا.. بسبب حكم جائر.. وهناك من ينزعه احتجاجا وتضامنا.. ضد كل تمييز واضطهاد.. وهناك من يتخلى عن حذائه المريح ترفا.. تأشيرة نحو القلوب المرهفة.. وهناك من تسوقه قدماه الحافيتان نحو قبة البرلمان.. وهناك من تسوقه إلى باريس نحو المخفر كالخرفان.. وهناك الديفا “سيزاريا ايفورا” التي عشقها شعب جزيرة الرأس الأخضر.. حتى تربعت على العرش كالسلطان.. بل أصبحت رمزا من رموز البلاد.. حزن على فراق “حافية القدمين”.. شعب بأكمله.. فطوبا لمن ضحى بالحذاء من أجل قضيته.. وعاش طول العمر حافي القدمين.. وويل لمن نسيه التاريخ.. حتى كاد لا أحد يتذكره…

 

تابعنا على قناة عبّر على الواتساب من هنا
تابع عبّر على غوغل نيوز من هنا

اترك هنا تعليقك على الموضوع