بين تحكّم المال وبروز التافهين.. الصحافة المغربية في أزمة ضمير وهوية

في ظل ما يشهده المشهد الإعلامي المغربي من اضطرابات واهتزازات، أجدني مضطراً كمواطن وكصحفي ـ إن جاز التعبير ـ أن أعبّر عن قلق حقيقي تجاه الوضع الراهن للصحافة ببلادنا، التي تعيش ـ وللأسف ـ بؤساً مهنياً وأخلاقياً غير مسبوق.لقد تحولت الصحافة المغربية مهنة “المتاعب” إلى مساحة تعجّ بالمصالح الضيقة والوجوه المأجورة، بينما تراجع صوت المهنية إلى هوامش النسيان.
الصحافة المغربية تباع وتشترى.. وأقلام مأجورة تتصدر المشهد
اليوم، لم تعد المسألة تتعلق فقط بالتدخلات السياسية أو سطوة السلطة، بل تجاوزنا ذلك إلى مرحلة أكثر خطورة، حيث أصبح التحكم في المنابر الإعلامية يتم بأموال الإشهار وميزانيات المعلنين، وبشكل أدق من داخل دوائر رجال الأعمال النافذين، وعلى رأسهم رئيس الحكومة نفسه.
تؤكد تقارير وإحصاءات غير رسمية أن جل الجرائد والمواقع التي تصف نفسها بالمستقلة، هي إما مملوكة بشكل مباشر أو جزئي لرئيس الحكومة عزيز أخنوش، أو تقع تحت تأثير فريقه السياسي والإعلامي. في المقابل، يتم خنق الأصوات المعارضة بالإقصاء المالي والتضييق القضائي، ما أدى إلى اختفاء تدريجي للصحافة الجادة التي تُسائل وتكشف وتعري.
لقد كانت الصحافة يوماً ما توصف بأنها السلطة الرابعة، لأنها كانت تراقب وتحلل دون خوف أو تبعية، وتشكّل نبضاً حقيقياً للديمقراطية. أما اليوم، فقد تراجعت تلك المكانة، وتحولت كثير من الأقلام إلى أبواق تمارس التشهير والابتزاز وتلميع الوجوه الفاسدة.
صعود التافهين وسقوط المهنة.. من المسؤول؟
وفي مقابل هذا الانحدار المهني، نشهد صعوداً صاروخياً لفئة من “اليوتوبرز” والتافهين وصائدي النقرات”، الذين لا يترددون في سبّ وشتم المسؤولين أو الصحفيين الشرفاء، بدعوى “الفضح” و”تفجير الملفات”، بينما لا يملّون من استعطاف “خوتهم المغاربة” لحصد “البارطاج” والدولارات.
المؤسف أن هؤلاء يجدون جمهوراً يتفاعل معهم، ويؤمن بخطابهم الفج، على حساب الصحافة المهنية التي أصبحت توصف بالتابعة أو “المُطَبِّلة”.
يرجع هذا التحول، حسب اعتقادي، إلى عاملين رئيسيين:
أولاً، التحكم الإعلامي الممنهج من قبل حكومة المليارديرات، التي أفرغت المشهد من التنوع الحقيقي، وساهمت في قتل حرية التعبير باسم “الإشهار”.
وثانياً، الخطاب الشعبوي لفئة من التافهين المقيمين داخل المغرب وخارجه، الذين يلعبون بذكاء على أوتار الكرامة والظلم الاجتماعي، مستغلين فقدان المواطن للثقة في المؤسسات، ومشجعين على التشهير والافتراء.
في الختام.. أين المفر؟
خلاصة القول، أن الصحافة المغربية اليوم تعاني من أزمة ضمير وهوية، نتيجة تحالف المال والسلطة، من جهة، والانحطاط الرقمي و”التفاهة الممنهجة”، من جهة أخرى. ولم يعد بإمكان الصحفي النزيه أن يجد له مكاناً آمناً يمارس فيه مهنته، دون أن يُرمى بالعمالة أو يُطرد من رزقه أو يُلاحق قضائياً.
ويكفي أن نختم بتقرير منظمة “مراسلون بلا حدود” الذي وصف الحالة بوضوح، حين قال إن حكومة رجل الأعمال عزيز أخنوش “تُحكم قبضتها على الإعلام، وتستخدم نفوذها المالي للتأثير على التوجهات التحريرية، بينما تتعرض وسائل الإعلام المستقلة للتضييق المالي والقانوني”.
فهل ما زالت هناك صحافة؟ أم أننا نعيش نهاية زمن الحقيقة؟