المناعة النفسية والاجتماعية ضد كورونا(3)

عبّر معنا كتب في 23 مارس، 2020 - 20:47 تابعوا عبر على Aabbir
المناعة النفسية والاجتماعية ضد كورونا
عبّر

عبد العالي الشرفاوي ـ عبر

 

 

 

عندما خرج الفيروس من قمقمه، وبدأ يحصد الأروح بدون رحمة أو سابق إنذار، سرعان ما تمالك الصينيون أنفسهم، ولم ينزووا إلى البكائيات، أو يعلنوا استسلامهم، فأبدوا حالة تماسك اجتماعي قوي، حيث امتثلوا بسرعة قياسية لاجراءات الحجر الصحي، وجهزوا مايكفي من الإعدادات الطبية لمواجهة الكارثة، دون أن يؤجلوا التحقيق في معرفة الجهة المسؤولة وراء الحدث. وكأن عقلا واحد يدبر كل الأمور، حيث الصرامة واستشعار  جسامة المسؤولية أكبر من كل السفاسف، حتى ان المسلمين الذين كانوا إلى أشهر قبل الوباء يشتكون جرائم عنصرية ضدهم، أضحوا أكثر من تجند لخدمة المواطنين، خصوصا في توزيع الطعام مجانا للمقيمين في الحجر الصحي.

 

هذا في الوقت الذي كان الوباء يزحف تدريجيا إلى باقي البلدان التي تحسب نفسها على درجة عالية من التقدم والتطور، كان داء الاستهتار والاستعلاء ينخر مناعة المجتمع، وتصدرت النخب منابر الكلام بنشر تأويلات وقراءة في السيناريوها، وصياغة قصص في نظرية المؤامرة، واتهام الصين بالديكتاتورية، واختلاق أسطورة الفيروس، بينما الفيروس العدو المقصود لاشأن له بتلك الخطابات، إنما شأنه الوحيد هو الفتك بالبشر.

 

والحالة تذكير بقصة قديمة تعاد كلما نستها البشرية أو تعالت عليها، حينما ينسب الانسان الفضل لنفسه، ويفرح بما كسبت يداه، كما نبه تعالى ذلك في قوله “حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” .

 

إنه تواطؤ جماعي، في تشكيل رأي وخس عامين، تمظهر في الخطاب السياسي والفني، والثقافي، وفي أنماط الاستهلاك، وفي كل النوادي، لطالما نبه المفكرون إلى المعاني المغلوطة للرفاهية والسعادة، التي انبنت على الجشع، والنزوات العابرة، والتي بلدت حس الانسان وصيرته رقما استهلاكيا، في مهب أرقام كبرى في البورصات العالمية، وفي التوازنات الجيوسياسية.

 

فتبلد الحس واحدة من مظاهر نقص المناعة الجماعية إلى جانب الاستهتار، وضعف الاستشعار، تمنع الفرد أن يفكر داخل الجماعة أبعد من تقمص حالة الجماعة التي يحشر نفسه ضمنها، ويفوض مصيرها بين يديها، ولاينفك حتى يجد رجة قوية، مثلما حدث في بلاد روما نموذجا.

 

أظهر الفيروس ضعف مناعة الجسم الاجتماعي، بالخصوص بتضخم نزعة الفردانية بما تطويه من خلفيات فكرية، والتي تطرفت في أوهام الحرية المطلقة، بشكل غيبت ماتمثله قوانين الجماعة من تحصين للفرد، وأن هذا الفرد حين يمرض لايمرض وحده، والفرد لايملك أن يمنح الجماعة من خلال أي قانون حقها في الحماية من العدوى، فتنتهي كل أوهام الحرية المطلقة بتدخل سلطة الجماعة  لتسترجع كلّ نجاعتها البيو-سياسية التي فقدت شطرا واسعا منها باسم قيم الديمقراطية.

 

ولايخفى على المتتبع تجليات ذلك في تصريحات عدد من قادة الدول الأوربية بعد إنتشار الوباء، بتقديمهم حلا عرف ب “مناعة القطيع” كحل لتحقيق مناعة جماعية، تستوجب التضحية بالالاف بل الملايين من المواطنين، من أجل النوع الأقوى الذي يستطيع البقاء، وقد صرح بذلك رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، بعد أن عبر عن انهزامه أمام اجتياح الوباء، وكما حذا حذوه رئيس الوزراء الهولاندي مارك روتي، عندما أكد على حل ابطاء انتشار الفيروس باعتماد مناعة جماعية مضبوطة، هذا إلى جانب الاخبار التي تشير إلى إهمال كبار السن والحالات الصعبة،  وتركهم في مواجهة الموت دون مساعدة.

ومثال الخيار السلبي لضعف المناعة الجماعية تبدت أيضا في السباق المحموم لاكتشاف الدواء واحتكار العلاج به، أو الضغط به على بقية الدول الأخرى، في تغافل عن المصير المشترك الذي تواجهه البشرية.

 

وليس كورونا أول فيروس معدي، يعلم البشرية اكتساب مناعة اجتماعية فهناك، أيضا أمراض أخرى لضعف المناعة المكتسبة لها صلة وطيدة بضعف المناعة الاجتماعية، ويثير الكثير من التحفظات في حملات معالجتها وفق المعتقدات التي تؤطرها.

 

وعلى درجة الخطورة يستجيب المجتمع السليم بتماسكه وإبداعه، تبدأ برفع مستوى منسوب التخويف، تهيء لاستقبال النصائح والتعليمات، والتدريب على إجراءات احترازية تصل إلى درجة الحجر الصحي كما نعيشه، ونتأقلم معه، مع ما يمكن أن تتكبده من ضرر، وتأتي تبعاته تحت الإكراه.

 

وكما هو الحديث عن المناعة المكتسبة، فحماية المجتمع بعد الواقعة، أشبه بنصح مدخن بالإقلاع عن التدخين في مرحلة متطورة من مرض رئته، ولأن الجسم لايكتسب المناعة بالضرورة وبسرعة مطلوبة، فقد يخسر المجتمع آلاف المرضى قبل أن يتحول المرض إلى خبرة في ذاكرة الجسم، أو ذاكرة المجتمع.

 

ولعل الأنجع والأسلم هو تقوية مناعة فطرية أصلية، تشكل حماية مستمرة تلقائية ضد أي خطر اجتماعي، يفتك بالمجتمع سواء فيروسات بيلوجية،أو نووية أو إلكترونية، أو فكرية…

 

وتكتسب المناعة الاجتماعية كما تكتسب الحيوية، والنفسية، وبالأحرى تكون مصاحبة لهم، ولعل أبرز التمارين، لاكتساب قوة مناعة اجتماعية نجملها في فعالية التواصل بين مكونات المجتمع، والاتفاق على تحديد بوصلة يتجه إليها الجميع،والتواصل بين كل من هم سواسية أمام فيروس كورونا، حتى أولئك المشردون والمهملون، فإن لم يكن لهم رأي فلهم حق.

 

وكان المسجد النموذج الذي انحرفت عنه أندية المجتمع، ولم تتمثل قيمه، حيث يقف الفقير في صف مع الغني، والعالم الجهبيد مع الأمي، لا فضل لأحد عل أحد، أمام معيار الانسانية الوحيد، حيث العطاء المتبادل، وتفعيل الأدوار بين كل مكونات المجتمع، وتقليص الفوارق الاجتماعية، وخلق مؤسسات التضامن الاجتماعي، وإقرار الصحة، والتعليم، والشغل للجميع، قبل أن يتدخل مرة أخرى فيروس ما ليصحح التوازنات.

 

كورونا مجرد فيروس ضعيف، لكنه إذا اخترق الجسم الحي أصبح قويا، وككل فيروس يتصدى له الجسم  بما يملك من قدرات دفاعية كانت مخبأة، دون حاجة إلى قرار صادر عن وعي.

 

والمجتمع له ذاكرة قديمة وعناصر مكنونة في أعماقه، من التراحم، والتعايش، والتضحية، حان الوقت لاستنفارها، لتجديد وعي اجتماعي مشترك، يقدم نموذج مجتمع يشد بعضه بعضا.

 

 

تابعنا على قناة عبّر على الواتساب من هنا
تابع عبّر على غوغل نيوز من هنا

اترك هنا تعليقك على الموضوع