الفعل الدبلوماسي الوطني: ما لم يتحقق بالدفاع يتحقق بالهجوم

الأولى كتب في 18 يناير، 2021 - 21:49 تابعوا عبر على Aabbir
الفعل الدبلوماسي الوطني
عبّر

عبّر 

 

لا يعرف الفعل الدبلوماسي، كقانون تجريبي ونظري، طريقا وحيدا وثابتا، بل هو في المقام الأول عنوان على التحول وعلى الربط المطرد للوسائل بالأهداف. فكلما طرأ تحول معين على مستوى البيئة الداخلية أو الخارجية للدولة إلا وكان تكييف الفعل الدبلوماسي للدولة بنفس مقدار تحول البيئة المحيطة شرطا واقفا لأداء دبلوماسي موفق ومتميز.
شهدت الدبلوماسية الوطنية منذ سنة دينامية غير مسبوقة، أفضت إلى إحراز مكتسبات على قدر كبير من الأهمية وعلى أكثر من صعيد، وكان أهمها إخراج القضية الصحراء من فخ التدبير إلى ضرورة التسوية.
إلى عهد قريب لم تكن هذه المكتسبات ضمن مشمولات الممكن، ومع ذلك قد يثار سؤال صيانة هذه المكتسبات وتعزيزها، من باب أنه إذا كان إحراز التأييد الدولي للقضايا الحيوية للمغرب في حكم الممكن، هل لنا قدرة الحفاظ عليها وتعزيزها دون استنزاف؟
قد يفترض الجواب عن هذا السؤال طرح سؤال أكثر إلحاحا، وهو كيف تمكنت الدبلوماسية الوطنية من توليد هذا الفعل بهذا الزخم وهذه الدينامية؟ فمما ليس فيه شك أن معرفة أسباب تحول تدبير الفعل الخارجي للدولة سيتكفل بإدراك حجم ما تم تحقيقه خلال هذه السنة وفي نفس الوقت سيؤكد لكل مشكك مرتاب أن ما نشهده اليوم من أداء دبلوماسي رفيع ومحترف، هو رصاصة أطلقت البارحة فأصابت هدفها اليوم ووعدت بحسم النزاع قريبا.
أكيد أن ما أدركته الدبلوماسية المغربية خلال هذه السنة ليس وليد ضربة حظ أو نتيجة صدفة أفضت بالمتحقق إلى الوجود هكذا بقدرة قادر. فحسن الطالع، إن آمنا به، والظروف الخارجية وإن كانت مواتية، فلا تعدوا أن تكون عوامل مساعدة ودافعة، ولا يمكنها بأي شكل من الأشكال أن تقوم مقامك لتجعلك واقفا على سكة انتصارات دبلوماسية متتالية. الأمر يعني ببساطة أنه يقف خلف هذا الأداء فعل إرادي واع، وقدرة التحديد الدقيق للأهداف ونباهة للسير على هدي علامات تشوير تسمى بالتخطيط، ورؤية بمعناها في المثل الإنجليزي الذي يقول أن “الرؤية هي أن ترى ما لا يرى”.
باختصار شديد، فالأداء الدبلوماسي الوطني تَجَلٍّ للمنظورية الفاحصة لمدبر السياسة الخارجية، من صناعة القرار إلى اتخاده. ولسنا في حاجة إلى التذكير بأن السياسة الخارجية المغربية هي مجال ملكي بامتياز أو لنقل مجال ملكي محفوظ. وعليه، فإحراز مكتسبات من هذا الحجم في ظرف قياسي وفي سياق دولي وإقليمي صعب ومتدبدب، يجعلني أؤمن باكتساب الفعل الدبلوماسي الوطني للمناعة من الانكسار واكتسابها ملكة اتخاذ القرار حيث يجب أن يتخذ.
وتعود المتغيرات التفسيرية لهذا التحول الذي يعرفه الأداء الدبلوماسي الوطني إلى طائفة متنوعة من العوامل الظاهرة والباطنة، ويوجد على رأسها الطابع الحاسم لدبلوماسية القمة، وهي دبلوماسية السياسة العليا التي يضطلع بها الملك مُوَظِّفا في ذلك صفته كرئيس دولة وكأمير المؤمنين، بل وحتى رصيده كوسيط لتسوية العديد من النزاعات الدولية منذ ان كان وليا للعهد. هذا بالإضافة إلى اتسام التحرك الدبلوماسي في الآونة الأخيرة بقدر كبير من الواقعية السياسية، وهي الأهم، حيث تمنح للمكتسبات طابع الديمومة وتحصنها من التراجع والتآكل، فقد سبق لهنري كيسنجر أن قال “لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة ولكن هناك مصالح دائمة”، وذلك من خلال ربط المصالح، وأساسا الاقتصادية والأمنية، بين المغرب وباقي الفاعلين الدوليين. وتجسد هذا المضمون الجديد للفعل الدبلوماسي في إعادة توزيع القدرة الدبلوماسية الوطنية لتشمل أغلب الدول المؤثرة في السياسة الدولية وكذا السياسات الإقليمية، بل امتدت هذه العلاقات لتشمل دولا لا تتسق مواقفها مع مصالح المغرب تماما كنيجيريا وكوبا ورواندا…
كل هذا وغيره، مكن الدبلوماسية المغربية من المرور إلى التحرك خارج الضغط والابتزاز، من خلال الخروج من مربع الدفاع والترقب والانتظار إلى ميدان الاستباق والهجوم والمبادرة. ولا شك ستؤسس هذه التجربة لمدرسة مغربية في مجال العمل الدبلوماسي بأعرافها الخاصة وتقاليدها المتميزة.
أفضى إعادة طرح سؤال ما الذي نريده من الآخر حليفا كان أو خصما؟ إلى رفع سقف الرهانات والانتظارات، فبعدما كان رهان الدبلوماسية الوطنية، فيما يتعلق مثلا بالوحدة الترابية، هو إقناع الدول بعدم الاعتراف بالكيان الوهمي، صار رهان دبلوماسية اليوم هو انتزاع موقف ليس للوقوف على خط الحياد، بل بتخطيه إلى الاعتراف بمغربية الصحراء. وهذا ما جسده الموقف الأمريكي الأخير، وكذا موقف أزيد من أربعين دولة مشاركة في الاجتماع الوزاري الداعم لمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل واقعي ووحيد للنزاع على الأقاليم الجنوبية. وبلغة الدبلوماسيين انتقل منطق اشتغال الآلة الدبلوماسية الوطنية من عبارة “دفن الحقائق في المعاني” كما صاغها الدبلوماسي الأمريكي وليام بيرنز إلى عبارة “بعث الحقائق بالمواقف الواضحة وبالفعل الملموس”.

تابعنا على قناة عبّر على الواتساب من هنا
تابع عبّر على غوغل نيوز من هنا

اترك هنا تعليقك على الموضوع