الدولة الديمقراطية العلمانية هي الحل

عبّر معنا كتب في 10 فبراير، 2020 - 14:53 تابعوا عبر على Aabbir
ميشيل شحادة
عبّر

*ميشيل شحادة

في العام 1939 رفض الحاج آمين الحسيني الكتاب الأبيض لإنه سعى الى تقسيم فلسطين. وفي العام 1993 وقع عرفات اتفاق أوسلو الأسوأ بكثير مما رفضه الحاج الحسيني. وكانت قيادة الثورة الفلسطينية قد بدأت على اساس تحرير كامل التراب الفلسطيني، وتقنع الآن بسلطة أقل من بلدية. وبعد ان كان التحرير “ينبع من فوهة البندقية،” تحول في زمن اوسلوا الى قمع البندقية، وأصبح العمل الفدائي “إرهابا،” وامست الخيانة “تنسيقا امنيا.” ويتواصل الخداع وإشاعة الوهم بأن “الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس” لايزال خيارا ممكنا تحقيقه بالمفاوضات وبالتوجه الى الشرعية الدولية.

 

رحل عرفات ولم يحقق شيئا من شعاره الدولة المستقلة، لكنه خلف ورائه عبئا على كاهل الشعب الفلسطيني تنوء به الجبال، والأدهى هو من تسلم بعده.

 

وهم حل الدولتين

يسهم الإصرار والترويج لحل الدولتين في إطالة معاناة الشعب الفلسطيني. حيث كسبت “إسرائيل” بسبب الدعوة الفلسطينية لحل الدولتين زمنا طويلا وثمينا، بإيهام الفلسطينيين والهاءهم بعملية سلام ومفاوضات عبثية لا تنتهي. فبينما كان الشعب الفلسطيني يعاني وينتظر مترقبا ان تتمخض هذه “المفاوضات” عن حل ما، يأتي ولو بالحد الأدنى من حقوقه الوطنية، كانت “إسرائيل” تراوغ وتعمل جاهدة بمنهجية مدروسة لمضاعفة عناصر قوتها وفرض حقائق مادية جديدة على الأرض. وهدفت اللاءات الخمسة التي تبنتها الأحزاب الصهيونية قاطبة بانه لا انسحاب من القدس، ولا انسحاب من وادي الأردن، لا إزالة للمستوطنات، ولا عودة للاجئين، ولا للدولة الفلسطينية المستقلة، الى دفع حل الدولتين الى افق مسدود.

 

فالاستراتيجية الصهيونية تقوم على ان كل فلسطين تشكل “الدولة اليهودية” لا يحق لاحد التنازل عنها ابدا. فعندما اتم الكيان الصهيوني احتلال كامل فلسطين، انحصرت معضلته في صمود الانسان الفلسطيني المستمر في التواجد والتوالد، مما ادى الى خلق حالة خوف وجودية عنصرية هستيرية عندهم اسموها ب “الخطر الديمغرافي.” وهم يعملون ليلا ونهارا لإزاحة هذا “الخطر” بطرق ثلاث: أولا بمحاصرة التجمعات الفلسطينية جغرافيا، ثانيا بشطب حق العودة، وثالثا بالتهجير والتسفير (الترانسفير).

 

فالسلطة الفلسطينية برؤيتهم هي ادارة ذاتية “للكانتونات” الفلسطينية، وليست سلطة سياسية وطنية حقيقية. هذا هو سقف واقصى ما يمكن ان تصل اليه السلطة الفلسطينية، ضمن إطار “دولة يهودية” هي “إسرائيل الكبرى” على مجمل ارض فلسطين التاريخية.

 

فلم يكن التظاهر الصهيوني بقبول حل القضية الفلسطينية في إطار دولتين، واحدة فلسطينية وأخرى “يهودية،” إلا شرك خبيث لإيقاع الفلسطيني في المصيدة، ولكسب الوقت لفرض وقائع مادية جديدة على الارض. فالكيان الصهيوني لم يقصد ابدا الحوار الجدي مع الفلسطيني للتوصل الى حل، وانما للسيطرة عليه، ولم يرغب يوما في التعايش مع الفلسطيني وانما السعي لاقتلاعه. لهذا سيبقى الصراع مستمرا حتى هزيمة المشروع الامبريالي الصهيوني برمته.

 

وجاءت “صفاقة القرن” لإنهاء القضية الفلسطينية لتدق المسمار الأخير في نعش حل الدولتين. ولأنه من المستحيل استمرار الوضع الفلسطيني كما هو عليه من التشرذم والتبعية، والفساد الاقتصادي والسياسي، أصبح لزاما حل السلطة الفلسطينية التي تحولت الى أداة قمع في خدمة المحتل. فليس باستطاعة الشرائح التي تتحكم بها، والتي ارتبطت مصالحها مع الاحتلال الا التكيف مع المشاريع الصهيونية. فهي سلطة مذعنة، وفاسدة، ومعادية للمقاومة، مما يستوجب المبادرة بحلها لأن انهيارها أصبح عامل وقت. والفرق بين انهيار السلطة او المبادرة في حلها استراتيجيا. فالمبادرة الواعية والمبرمجة تتيح السيطرة الوطنية عليها. اما الانهيار المفاجئ فيخلق حالة من البلبلة والتشرذم والاقتتال الداخلي، بين المجموعات الفلسطينية المسلحة المتنازعة. هذا يمكن “إسرائيل” من استغلال ذلك لارتكاب نكبة فلسطينية ثانية.

 

دولة فلسطين الديمقراطية هي البديل

 

لأن “إسرائيل” محصول للمصالح الرأسمالية الغربية في الوطن العربي فلها وظيفية إقليمية. لهذا يأتي شعار الدولة الديمقراطية العلمانية في سياق مناسب فعال وناظم للصراع التاريخي ضد هذا الكيان الغاصب، ويفتح في نفس الوقت افاق للتوحد القومي والتطور الاجتماعي والتحديث وبناء الدولة الديمقراطية المدنية. فهو مشروع مرتبط بتفكيك مشروع سايكس بيكو من اساسه.

 

كما ان تبني هذا الشعار ينطلق من فهم طبيعة المشروع الامبريالي، الذي يهدف الى السيطرة على المنطقة العربية واتباعها بنظامه الرأسمالي. ويهدف الى إبقاء الوطن العربي مُجَّزأ ومتخلِّفا ومُتصارِعا لنهب خيراته، ولمنعه من التقدم والسعي لكي يصبح قوة منتجة لها ثقلها وحضورها العالميين. فالغرب الامبريالي يرى في نهضة ووحدة العالم العربي تهديدا لزعامته وهيمنته العالمية. فقد زُرِع الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي لهذه الوظيفة، وليكون مركز ثقل للوجود الامبريالي الصهيوني في المنطقة، ومن هنا يبدأ الحل.

 

يستند بناء الدولة الديمقراطية على حق الاقتراع الشعبي على مبدأ صوت واحد لشخص واحد، بغض النظر عن الدين والعرق واللون والجنس والفكر والمذهب والعقيدة. كما انه يعمل على تحقيق المساواة التامة بين المواطنين، ويضمن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين واحفادهم الى ديارهم الاصلية. ولا يقصد به ان يكون دولة لكل مواطنيها ضمن “إسرائيل،” كما طرح مثقف السلاطين عزمي بشارة، ولا دولة ثنائية القومية متجاهلا طبيعة الرؤية الصهيونية وعلاقة فلسطين بالعرب. فوضع فلسطين القائم الآن يعتبر ثنائية القومية إذا أمكن جدلا افتراض ان اليهودية تشكل قومية. ولكن الرؤية الصهيونية ترفض إعطاء حق المواطنة الاسرائيلية للفلسطينيين في الضفة والقطاع، بل يعملون على تكريس يهودية الدولة وإلغاء الوجود الفلسطيني برمته.

 

اما الدولة الفلسطينية الديمقراطية فستبنى على أساس المواطنة التامة ضمن سياق عربي. فلا يمكن لاي حل ان ينجح بمعزل عن بيئته العربية مهما قيل، كما اثبتت التجربة التاريخية. ولا يمكن للحل ان يكون دولة تتعايش بها طوائف اليهود والمسيحيين والمسلمين، فتصبح “ديمقراطية طائفية” مثل لبنان اليوم. ولا دولة تبنى على أساس ديني، لان فصل الدين عن السلطة قضية اساسية لبناء دولة مدنية حديثة. فليس منطقيا ان يتم النضال الشاق لهزيمة دولة أسست على الدين لبناء دولة اخرى على أساس ديني اخر.

 

فشعار الدولة الديمقراطية هذا يقدم حلا لمعظم زوايا القضية الفلسطينية، فهو يأتي بالسلام والاستقلال والمساواة والعدالة والحرية، الاجتماعية والفردية، وضمان حق عودة للاجئين الفلسطينيين الى ديارهم. ويحل ايضا المسألة اليهودية، بإعطاء اتباع الديانة اليهودية كامل الحقوق والواجبات كبقية المواطنين، ويحقق الانسجام والترابط العضوي مع المحيط العربي.

 

هذا الشعار لا يطرح للتحقق ضمن إطار موازين القوى القائمة الآن، بل في إطار النضال من اجل تغييرها وتأمين التحولات الضرورية في الواقع العربي. فيكون التوجه نحو الشرعية الدولية ضمن هذه الموازين مضيعة للوقت واطالة لمعاناة الشعب الفلسطيني.

 

فالعمل النضالي الاستراتيجي يقوم على الايمان بالجماهير والاعتماد على قوتها الكامنة، وعلى إعادة بناء الحركة السياسية وقوى المواجهة والتحرر. فقد وصل الاحتقان الشعبي العربي الذي ولدته الوحشية الامريكية الصهيونية في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا واليمن حد الغليان. فعلينا استثمار هذا الغليان الشعبي في تأسيس فعل مقاوم يتحول مع المراكمة الى عمل منظم.

 

وربط النضال الفلسطيني في سياق عربي يجعله منسجما مع نفسه ومع بيئته العربية بشكل استراتيجي. ففلسطين جغرافيا في قلب العالم العربي، وعاطفيا تسكن في قلب كل عربي، وهي أكثر من يرتبط بالجماهير العربية سياسيا نتيجة للمشروع الامبريالي الصهيوني. فنجد ان فلسطين هي الأكثر تأثيرا في العرب وانعكاسا عليهم، وهذا يظهر من قوة وحميمية تضامن وارتباط الجماهير العربية بفلسطين.

 

يثبت الرد الفلسطيني الرسمي على “صفاقة القرن” وجهة الأمور. فليس في قدرة وخيار السلطة قلب المفاوضات او وقف التنسيق الامني “المقدس،” لان ذلك مبرر وجودها وخيار زعمائها الأول والأخير. وسوف تواصل هذه القيادة سياسة المناورة من اجل الحفاظ على السلطة واطالة امدها، ليتمكنوا من حصد المزيد من المزايا والنعم لهم ولعائلاتهم من خلالها. ولن يقوم هؤلاء بتشجيع او رعاية انتفاضة فلسطينية أخرى فهذه تهدد مصالحهم، وليس عندهم رغبة في توحيد الشعب الفلسطيني لعدم قدرتهم على التعايش مع أي معارضة جدية، فلم يبقى امام الشعب الفلسطيني سوى تفكيك السلطة واختيار شعار الدولة الديمقراطية بديلا كجنوب افريقيا.

 

*كاتب فلسطيني

تابعنا على قناة عبّر على الواتساب من هنا
تابع عبّر على غوغل نيوز من هنا

اترك هنا تعليقك على الموضوع